'الجدية في الالتزام'
لماذا دبَّ الوهن فينا؟
لماذا لا يعتقد أي منَّا أنه أهل لأن يمكن له؟ لماذا انتكس من انتكس؟
لماذا تولى من تولى؟ لماذا صرنا إلى نقصان بعد أن كنا في زيادة؟ … إنه داء
الفتور في الالتزام .أخي في الله:هل كنت:تحفظ القرآن ثم تركت؟!تقوم الليل ثم نمت؟!ممن يطلب العلم ثم فترت؟!ممن يعمل في الدعوة ثم تكاسلت؟!هذا واقع مرير يمر به كثير من شباب الأمة:فكم من أعمال بدأت ولم تتم بسبب مرض الفتور!وكم من أعمال بمجرد أن بدأت ماتت وانتهت، وهي مازالت مشروعات على الأوراق!وكم من أناس ما زال الفتور بهم، وتقديم التنازلات حتى وصل إلى ترك الدين بالكلية، والبعد عن الدين بالمرة، ونسيان الله بالجملة .كم من أناس هم موتى اليوم، وهم لا يشعرون ولا يعلمون، هل هم أحياء أم ميتون؟!إنَّ أكبر سبب من أسباب الفتور:
هو فقدان الجدية، فأنت ترى الجدية واضحة عند كثير من المسلمين في طلب
الدنيا، فهو إذا افتتح مصنعًا، أو شركة، أو نحو ذلك فإنه يبذل أقصى جهده،
ويستولي هذا العمل على جهده ليلاً ونهارًا، فهو يعيش وينام لهذا العمل
الدنيوي .. أما أهل الدين ففي الخذلان والكسل والتواني والإخلاد إلى الأرض
والرغبة في الدعة والراحة – إلا من رحم الله - . إخوتاه ..إنني أتعجب من لاعبي الكرة
كيف يبذلون جهدهم وطاقتهم إخلاصًا للكرة ! وهؤلاء الممثلون في إخلاصهم من
أجل الشهرة ! ونفقد نحن هذا الإخلاص في الملتزمين بشريعة رب العالمين، فمن
يعملون لأجل جنة عرضها السموات والأرض متكاسلون فاترون.. إنَّ أحدنا
ليستحي من لاعب كرة يتدرب ويلعب ليل نهار، من أجل حطام الدنيا الفاني،
وللأسف إنَّ أي طالب في الثانوية العامة يبذل جهدًا أضعاف أي طالب علم
يطلب العلم لله !يا شباب الإسلام .. إنه واقع مر يستوجب منا وقفات: لماذا يدب الوهن في قلوبنا؟ لماذا تفتر سريعًا عزائمنا؟ لماذا يولي بعضنا الأدبار عند أول صدمة؟!والجواب: لأننا أخذنا
ديننا بضعف، كانت لي محاضرة بعنوان: ' بين سحر الحواة ولعب الهواة ضاع
الدين ' ضاع الدين لأن كثيرًا من شباب المسلمين حملوا هذا الدين هواية،
كهواية لعب الكرة، فدخل الدين هواية، ونحن نواجه ملحدين وكفارًا محترفين،
ولا يمكن للهواة أن يقفوا في وجه هؤلاء، فلابد من احتراف الدين .إنني لا أطلب منك أن تترك
دراسة الهندسة-مثلا- ؛ لتطلب العلم الشرعي، وإنما أطالبك أن تكون مهندسًا
محترفًا في أعمال الهندسة وإخضاعها للدعوة إلى الله، وخدمة الدين.. أن
تكون تاجرًا ولكن عبدتّ المال لخدمة رب العالمين .أسباب ضعف الالتزام :عدم الجدية في أخذ الدين:
لم نأخذ هذا الدين في الأصل بجد، بل دخلنا فيه هوى وهواية، وكثيرًا جدًا
ما أطالبكم بأن يراجع كل منا نفسه: لماذا تصلي؟! يا من أعفيت لحيتك لماذا
أعفيتها؟ لماذا قصرت ثوبك؟! لماذا تركت أشرطة الأغاني وأقبلت على سماع
القرآن؟! لماذا خلا بيتك من الدش والفيديو والتليفزيون؟ لماذا اقتنيت
مصحفًا؟ لماذا بدأت تقرأ القرآن؟ لماذا تحفظ القرآن؟ لماذا تحضر دروس
العلم؟ لماذا لا تصاحب إلا مؤمنًا؟ ….لماذا .. لماذا؟ إن لم يكن كل هذا
لله؛ فإنه مردود عليك، فيضمحل ويتلاشى ويتواري ويعود كأن لم يكن، قال
تعالى:} وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[23]{ [سورة الفرقان]. لابد أن نمحص نياتنا على جمرات الإخلاص، ارجع وصحح نيتك فهذا هو الأصل .الترف: والترف مفسد؛
إذ يتعلق قلب صاحبه بالدنيا، وللأسف الشديد إنَّ أكثر الأمة اليوم يعيش
ترفًا غريبًا عجيبًا، فالفقراء يحاولون أن يفتعلوا الترف، ولو في بعض
الأشياء، تجده لا يجد إلا قوته الضروري ولكنه يقتطع منه من أجل أن يقتني
المحمول، ويشتري أفخر الأثاث، ويشتري أحدث الأجهزة، ليشتري الدش فيدخل
الفساد على أهله ويقره في بيته دياثة، وهذا يقتطع من قوت أطفاله لكي يصيّف
هنا أو هناك، والقائمة طويلة تعرفونها جيدًا، وإلى الله المشتكى .ترف يخجل، فلأجل الله
يَشِحُّ ويبخل، ويقدم لك الاعتذارات لضيق الوقت وضيق ذات اليد و …الخ لكن
للدنيا وللشهوات يحارب ويدبر ويفكر.. إنه التنافس على الدنيا، وكأنه لو لم
يحصل هذه الأمور سيعيش في الضنك، وسيبلغ به الحرج المدى .لا شك أنَّ الترف أفسد
أبناءنا، فوجدنا فينا من يتفاخر يقول: أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء
أبدًا فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته، ومثل هذا يظن أنه أحسن إلى ولده
. ومن لا يستطيع أن يفعل ذلك يظل مهمومًا بهذه الرغبات من الأولاد والتي
لا يستطيع أن يلبيها لهم، والحقيقة أنَّ هذا ليس من التربية في شيء، فأنت
بذلك تفسد الولد، وليس من التربية أن تلبي جميع متطلبات أولادك فينشأ
الواحد منهم عبد شهواته، كلما تاقت نفسه إلى شيء طلبه، فإنَّه إن لم يجده
سيسرق ويزنى ويخون من أجل أن يحقق ما يشتهي .إن لابنك حقًا أعظم من الدنيا، وهو أن تعلمه كيف ينجو من النار، قال الله تعالى:} يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا
يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]{ [سورة التحريم].نحتاج إلى صفات ' الرجولة ' والرجل الحق لا يعرف الترف، قال عمر:' اخشوشنوا فإنَّ النعمة لا توم' .ليسَ أمرُ المرءِ سهلاً كله إِنَّما الأمـرُ سهـولٌ وحزونْ
ربما قـرَّتْ عيونٌ بشجى مُرْمضٍ قد سخنتْ عنه عيونْ
تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكونْ
إن
الترف مفسد، وكثرة المال تلهى، والناس في هذا الزمان لا يطلبون ما يكفيهم،
بل يطلبون ما يطغيهم، لا يكتفون بما يرضيهم بل يطلبون ما يعليهم، انظر
لطلبة العلم الآن، فأكثرهم لم يختم القرآن حفظًا، فإذا سئلت لماذا لم تحفظ
القرآن؟ فالجواب عادة: لأنني لا أجد الوقت . لماذا لا وقت عندك؟ لأنك
تضيعه في طلب الدنيا، أو طلب شهوات النفس، أليس لله حق في وقتك، فاتقِِ
الله . رواسب الجاهلية: يدخل
طريق الالتزام وفي داخلة نفسه رواسب من رواسب الجاهلية مثل: حب الدنيا،
والاعتزاز بالنفس، والآمال الدنيوية العريضة، وعدم قبول النصيحة، وكثرة
الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام…الخ .قال الله عن قوم موسى الذين لم يستطيعوا أن يدخلوا معه الأرض المقدسة:}فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ...[83]{ [سورة يونس].هؤلاء الذين أسلموا لموسى
بعد السحرة، ربُّوا على القهر والذل والاستعباد، وسياقهم كالقطيع، نشأوا
على ذلك، عاشوا على هذا، فلما آمنوا ظلت فيهم رواسب من هذا فلم ينجحوا مع
موسى عليه الصلاة و السلام، فأتعبوه، وبدأت الجاهليات تظهر، فتارةً قالوا:} لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [55]{ [سورة البقرة] . وتارة قالوا:}لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ [61]{ [سورة البقرة] . وتارةً:} قَالُواْ
يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا
فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[24]{ [سورة المائدة].والشاهد: أن سبب هذا أنهم آمنوا أصلاً:}...عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ{، فإذا اجتمع الالتزام مع رواسب الجاهلية، تظل الرواسب تشدك للماضي .بعض السبل العلاجية لظاهرة ضعف الالتزام والفتور:قف مع نفسك وقفة صادقة جادة:
لابد من وقفة جادة مع النفس، اصدق نفسك، ولا تبخل في بذل النصح لها . هذا
أول سبيل للعلاج، سل نفسك: ماذا تريدين؟ هل تريدين الجنة أم النار؟ فإن
قلتِ: الجنة فبماذا تطمعين فيها وأنت في هذا البلاء، وأنت تعصين الله،
إنَّ هذا لهو الغرور عينه .سل نفسك: مالك تشتهين الدنيا وقد علمت حقيقتها؟إن أهل الآخرة يكفي أحدهم
أقل القليل من حطام الدنيا، فمن كان همُّه الآخرة لم يبالِ بما حصَّل
الناس من الدنيا، إذا رأى الناس يتنافسون في الحصول على المرأة الجميلة
تذكر هو قول الله في الحور العين:}إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً[35]فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا[36]عُرُبًا أَتْرَابًا[37]لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ[38]{
[سورة الواقعة]. فصرف رغبته إليهن، وشمَّر عن ساعد الجد لنيلهن، وهكذا
تلمح دائمًا الفرق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة فممن أنت؟! إننا نريد
موقفًا جديًا، نمحص به نياتنا، نعيد من خلاله ترتيب أهدافنا، وابدأ بسؤال
نفسك ماذا تريدين؟ ثم الأمر يحتاج بعد ذلك إلى قرارات صارمة .مخالفة النفس طريق الهوى: انظر لربك وهو يعاتب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في تربية قومه يقول عز وجل:} وَكَتَبْنَا
لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ
شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا...{ لماذا؟ } ...سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ[145]{ [سورة الأعراف] . فهذا أول السبيل: تهذيب النفس بمخالفة الهوى، فلا تتابع نفسك في كل ما تشتهي، فلا تجبها في كل ما تطلب .مثال ذلك: أن تعرف من نفسك
أنها لا تصبر على طاعة، فإذا قالت لك: هيا لنأكل، أو لنذهب لزيارة فلان،
أو نحو ذلك من المباحات، فقل لها: ليس قبل أن أقرأ وردي من القرآن . فستظل
تلح عليك فإن خالفتها ولم تفعل ما تطلبه منك المرة بعد المرة؛ فسوف تتحكم
فيها، ومن هنا تعلو همتك، وتكون صاحب إرادة، وهذه هي الرجولة الحقيقية.كذلك أنت أيتها الأخت
المسلمة: إذا حادثتك النفس في أن تكلمي فلانة أو فلانة، فقولي لها: لا ليس
قبل أن أنتهي من حفظ هذا الجزء من القرآن، أو ليس قبل أن أنتهي من أذكار
الصباح والمساء، وهكذا .فإن من تابع نفسه في كل ما تطلب أهلكته، لذلك قال تعالى في عاقبة من يخالف نفسه في هواها:}وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[41]{ [سورة النازعات]. و النفس قد تكون طاغوتًا يعبد من دون الله دون أن يدري الإنسان منا، قال تعالى:}
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ
غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[23]{ [سورة الجاثية] . فاتباع الهوى سبب الضلال، قال تعالى:}
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى
مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[50]{ [سورة القصص].فهذب نفسك، وأعلمْها
حقيقتها، فهي أمة لله، فلابد أن تقيم حاكمية الله على النفس، فالله هو
الذي يحكم نفسك، وليست الشهوات، ولا الشيطان . وأعداء الإسلام لا ينفكون
في تزيين الباطل للناس، حتى تتحطم عقيدة المسلمين في خضم الشهوات
والملذات، إنها كما قيل: صناعة الغفلة! لما أراد الله أن يربي يحيى ليحكم صبيًا قال:} يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا[12]{[سورة
مريم]. وهو صبي يحكم؛ لأنه تربى على الجدّ والرجولة، لا على الترف، ولا
على الشهوات، ولا على متابعة النفس، ومطاوعة الرغبات، ولا على توفير
المطالب:}
يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ
صَبِيًّا[12]وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ
تَقِيًّا[13]وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا[14]{ [سورة مريم]. فأين هذه الصفات في شبابنا الآن؟!إن الله أمرنا بالجدية في الإسلام، فقال:} إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ[13]وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ[14]{
[سورة الطارق]. فالأمر ليس هزلًا.. إننا اليوم نرى سمات الصالحين في
الظاهر، ولكن على قلوب فارغة، على عقول فارغة- وأنا آسف إن قلت هذا- ولكن
هذا واقع للأمة لابد من تصحيحه؛ لأنه عار علينا، ووصمة للدعوة، وقد بدأت
تظهر أمور لا تمت بصلة للإسلام، في المعاملات، وأكل أموال الناس بالباطل،
والمشاكل الأسرية والطلاق، والأولاد الذين كنَّا نعقد عليهم آمالنا، أولاد
الملتزمين الذين لم يعرفوا الجاهلية التي مرَّ بها آباؤهم، فوجدنا من كبر
منهم ـ وللأسف ـ بعضهم أسوأ من أبيه، فلابد من وقفة للتصحيح، لابد من ضبط
مواقع الأقدام، قبل أن تذل بنا في جهنم. من رسالة:'الجدية في الالتزام' للشيخ/محمد حسين يعقوب
الجدية في الالتزام 2-2[right]
التخلص من مظاهر عدم الجدية:ومن أخطر تلك المظاهر:
الرضا بالظواهر والشكليات، ونسيان القلب والأعمال، فليس جل الدين في
اللحية والقميص القصير والنقاب، إنها من شعائر الإسلام، وينبغي علينا أن
نلتزم بها، لكن لأنَّ هذه السنن صارت شعارًا لأهل الإيمان ومعشر الملتزمين
في هذا الزمان، فلا شك تسرب بينهم من ليس منهم، واكتفى بهذه الأمور، ومن
هنا عدنا نقول: الملتزم هو الصوَّام القوَّام، الملتزم هو القائم بالقسط،
الملتزم هو من خلا بيته من المنكرات، من يتفقه في دينه، من يفهم عن ربه،
من يعمل في تزكية نفسه، هذه هي المعايير، ومن ابتعد عن هذا فليس من
الملتزمين، فقف لتحاسب نفسك .إنني أسأل:
منذ أن التزم الواحد ماذا حصَّل من العلم الشرعي الذي زاده قربًا إلى ربه؟
ماذا حصَّلت من العقيدة؟ ماذا درست في الفقه؟ كم كتاب قرأت؟ وعلى من
تعلمت؟ هل تجيد قراءة القرآن الذي هو فرض عين عليك؟ كم حفظت منذ أن التزمت
من القرآن؟ ما أخبار قيام الليل وصيام النهار والمحافظة على الأذكار؟
أيها الأخ الحبيب .. ينبغي أن يكون
الفرق بينك الآن وبين أيام الجاهلية شاسعًا، لابد أن تتغير جذريًا،
فاللسان يلهج بالذكر، والعين تبكي خشية لله، القدم تتورم من القيام، قلبك
لا تجده إلا في دروس العلم، أذنك تعودت على سماع القرآن وهجرت الموسيقى
والغناء .أين الإخلاص؟!
أين حملة الدين؟ أما رأيتم الرويبضة وهم يمرقون من الدين، إن هؤلاء ما
تجرأوا على الدين إلا بسبب تقصيرنا؟ تقصير في طاعة الله، تقصير في الدعوة
إلى الله، والواحد منَّا جل ما يصنع أن يقول: أنا مقصِّر، ادعُ الله لي !!
. مقصر!! فلابد من علاج، فليس الأمر أن تتهم نفسك في العلن، ثمَّ لا يتبع
ذلك ندم وتوبة .. نحن لا نيأس من رحمة الله، والله وعدنا إنْ أصلحنا من
أنفسنا أن يغير ما نحن فيه من غربة، فالأمل سيظل معقودًا أبدًا، والمستقبل
للإسلام، وإن كره الملحدون والكافرون، والتمكين للدين آتٍ بإذن الله، نسأل
الله أن يمكن لدينه في الأرض .
زيادة الطاعات وعدم الاغترار بالعمل اليسير:معتقد
أهل السنة والجماعة أنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن لم يكن
يزيد فإنه ينقص . أريد أن يزيد إيمانك كل يوم، تقرب إلى الله بما تستطيع،
ولا تغتر بالعمل اليسير، ولا تكثر التشدق بالإنجازات، لأنَّ هذا قد يورث
العجب والفرح بالعمل والاشتغال بالنعمة عن المنعم، فقد تجد أن الأخ إذا
وجد نفسه مقيمًا للصلوات في الجماعة، وقام ليلة أو ليلتين، ظن نفسه من
أولياء الله الصالحين، وهذا قد يبتلى بترك العمل، لأنه لم يشكر النعمة
وإنما نسب الفضل لنفسه، ولذلك كان المؤمنون هم أكثر الناس وجلًا، فليس
الشأن في العمل وإنما في قبوله، قال تعالى:} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[60]{[سورة المؤمنون].
فالاغترار بالعمل اليسير، وكثرة الكلام عن الأعمال التي يقوم بها؛ دليل
أنه لن يكمل، ولن يتم فاستر نفسك، قال الإمام ابن القيم في 'مدارج
السالكين': ' ولله در أبي مدين حيث يقول: ومتى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم
أن الله عنك غير راضٍ، ومن عرف نفسه وعرف ربه؛ علم أن ما معه من البضاعة
لا ينجيه من النار، ولو أتى بمثل عمل الثقلين ' .نعم الذي يرى نفسه مؤمنًا خالصًا فهذا
معجب مغتر بنفسه، لابد أن ترى دائمًا نفسك بعين النقص والعيب، ولا تأمن،
فإنَّ إبراهيم الخليل عليه السلام لم يأمن على توحيده، بل ابتهل إلى ربه
وقال:} وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[35]{[سورة إبراهيم].
عدم التسويف: فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام:
كثرة الوعود والأماني مع التسويف، فتجد المرء منَّا يمني نفسه، تقول له:
احفظ القرآن، فيقول: سأحفظ إن شاء الله عندما أجد الوقت . وبطبيعة الحال
لا يجد الوقت فهو مهموم دائمًا، يقول: عندما أنتهي من الدراسة سأتعلم
العلم الشرعي، وأتفرغ للدعوة إلى الله، ثمَّ تنتهي فيبدأ في البحث عن
العمل، ثمَّ يقول: لابد أن أتزوج، فيظل مهمومًا بأمر الزوجة والبحث عنها،
ثمَّ يجدها فيهتم بأمر الشقة وتجهيز المنزل، ثمَّ يتزوج فيبدأ في السعي
لتحسين وضعه الاجتماعي، ثمَّ يرزق بالأولاد فيظل مهمومًا بأمورهم هكذا
دواليك . والعجيب أنّك قد تجد رجلًا من هؤلاء في النهاية قد رضي بهذا
الضنك، ويقول: هذه سنة الحياة !! سنة الحياة أن تهجر الطاعات من أجل الهوى
والشهوات !! بسيف التسويف قُتل أناس كثيرون، فالتسويف رأس كل فساد، فمن
أجَّل الطاعات لغد وبعد غد لا يلبث أن يتركها بالكلية، فالشيطان يسول له،
ويمنيه، ويغريه بطول الأمل، والموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل .
? فالحذر الحذر من التسويف، وطول الأمل، قبل فجأة الموت، وحسرة الفوت:يا من تعمل في أعمال محرمة، إياك أن
تسوِّف، فقد تموت قبل أن تتخلص منه، هيا الآن، لا تؤجل، لا تعطل، واتخذ
هذا القرار الحاسم في حياتك فهذا دليل توبتك حقًا، لا أن تتشدق بالأوهام .يا من يريد حفظ القرآن قل: سأبدأ حفظ
القرآن اليوم، كل يوم ربع أو ربعين، وتلزم نفسك بذلك إلزامًا صارمًا، ولا
تتهاون في عقاب نفسك إن قصرت، وإلا فستصبح من أصحاب المظهرية الجوفاء
الذين يكثرون من الوعود والأماني .
أخذ الدين بشموليته : فمن مظاهر عدم الجدية في الالتزام الاكتفاء ببعض الجوانب في الدين دون الشمولية، وقد قال الله:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...[208]{[سورة البقرة]
. فكثير من الملتزمين يلتزم ببعض الجزئيات التي أحبها في الدين، وقد يكون
ذلك هوى، فليس الهوى في فعل المحرمات، بل وفي فعل الطاعات أيضًا .
فملاحظة الشمولية في الدين أمر ضروري، فإنني أريدك متكاملاً في جانب
العبادة: صوّام قوّام ذكّار لله، تتلو القرآن فتصبح ذا شخصية متألهة
متنسكة، وعلى الجانب العلمي فأنت طالب علم مجتهد، حافظ للقرآن، ذو عقل
وفكر نير واستيعاب شامل، وفي الجانب الدعوي فنشاط متقدم، سرعة واستجابة،
وعدم رضا بالواقع، وتفكير متواصل في الطرق الشرعية لتحويل وتغيير مجرى
الحياة، ذو تأثير ملحوظ في المحيط الذي تعيش فيه، كما قال الله تعالى في
وصف نبيه عيسى عليه السلام:} وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ...[31]{[سورة مريم].هذه هي الشخصية التي نبحث عنها، هؤلاء هم الرجال الذين يحق أن يمكن لهم في الأرض.أما الرضا ببعض
جوانب الدين، وتقسيم الدين إلى لباب وقشور، فهذه بدعة منكرة جرت من ورائها
تنازلات كثيرة، وشقت الصف لا جمعته، تجد بعض الشباب رضي بالجانب العلمي
وترك باقي الجوانب، تقول لأحدهم: لماذا لا تقوم الليل؟ فيقول: طلب العلم
يستحوذ على كل وقتي .
وأنا أعجب من هذه التفرقة التي لا أصل لها، من قال أنَّ علماء السلف تركوا الاجتهاد في العبادة والدعوة من أجل طلب العلم؟!
وتجد آخرين لا همَّ لهم إلا الدعوة،
يتجولون على الناس لدعوتهم وربطهم بالمساجد- وهذا في حد ذاته جيد- لكن
دعوة بدون علم، هذا سرعان ما ينقلب على عقبيه، لأنه لم يفهم دينه، فربما
يستجيب مرة أو مرتين بسيف الحياء، أو بفعل تحمس مؤقت، ثمَّ بعد ذلك لا
تجده .وآخرون ارتضوا من الدين بالعبادة فلا تعلموا ولا دعوا، فمن أين
لهؤلاء بهذا؟!!الدين كلُُ واحد، لا يصلح فيه الترقيع :}...ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...[208]{[سورة البقرة]
. أي: جملة واحدة بجميع جوانبه .ولابد أن توزع طاقاتك من أجل خدمة هذه
الجوانب الثلاثة: علم وعمل ودعوة، ومتى ضاع منك الوقت دون أن تثمر شيئًا
في هذه الجوانب فاعلم أنَّ هذا من الخذلان، وأنَّ هذا لا يكون إلا بكسبك،
فينبغي أن تتوب سريعًا، وإلا فمن يدريك أن الموت لن يكون أسرع مما تتوقع،
وعلى هذا نتعاهد ونتواصى، وليأخذ كل منكم بيد أخيه، فإنها النجاة .
التعاهد على الثبات حتى الممات: فمن
مظاهر عدم الجدية: التفلت من الالتزام لأول عارض، فمن أول شبهة، أو أول
وارد من شهوة يتفلت، وسرعان ما تتتابع التنازلات، مرة ترك النوافل، ثمَّ
مرة ترك الجماعة، بدأ يترك رفقة الصالحين، وفي الملتزمات تجدها تتنازل يوم
عرسها فتخلع الحجاب، لماذا؟ لأنه يوم الزفاف ولا حرج، أو تتنازل فتتزوج من
غير الملتزمين، وهكذا، تبدأ في خلطة غير الملتزمات، تبدأ في مشاهدة
التلفاز، تبدأ في الاختلاط بالرجال، ثمَّ لا تسل بعد ذلك أين هي الآن؟!
هذا ما يورثه الفتور وعدم الجدية،
فبهذه النفسيات لا يمكن أن يمكن لنا، لذلك لابد من أن نقف على أرض صلبة،
لابد أن نثبت على الدين وإن قويت الرياح، لا نتزعزع، لا تكن انهزاميًا .
بعض الإخوة إذا أصابه شيء من القهر
يجزع سريعًا، وآخرون يقعون في أول اختبار في شهوة، فإذا فتحت عليه الدنيا
شيئًا ما؛ نسي ما قدمت يداه، فأين الثبات على الدين؟ أين الاستقامة على
شريعة رب العالمين؟
إنَّ هؤلاء الذين يتفلتون من الالتزام
لأول عارض شبهة، أو أول وارد شهوة يضيعون قبل ورود العوارض والموارد،
لأنهم مهيئون نفسيًا للوقوع والسقوط .
والعلاج هو اليقين، هو الثبات حتى
الممات، هو العقيدة الصحيحة الصلبة، والمنهجية في العلم والعمل والدعوة،
وهذا يحتاج إلى صبر وتحمل، ولا يكون ذلك كله إذا لم يخلص العبد في
الاستعانة بربه تبارك وتعالى فالزم .
عدم إكثار الشكوى وتضخيم المشاكل: فمن
مظاهر عدم الجدية في الالتزام: كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد
المبررات، فدائمًا أبدًا شكاء، لا يرضى، وكل مشكلة صغيرة يضخمها، وهذا من
البطالة وعدم الجدية .. وآخر صاحب منطق تبريري، فلا يريد أن يواجه نفسه
ويلقي باللائمة عليها، بل يتذرع ويعلل ويبرر، وهو يدري أنَّه على غير الحق
.
ومنهم: من إذا التزم بالدين صار عالة
على الدعاة، ولسان حاله يقول: أنا صنعت ما قلتم لي، فعليكم أن توجدوا لي
الحلول لكل مشكلاتي، وهل لما التزمت التزمت من أجل فلان وفلان أم ابتغاء
وجه رب العالمين؟!
إن كثرة الشكوى وتضخيم المشاكل وإيجاد المبررات سبيل للنكوص ولابد، واستصحب دائمًا هذه النصيحة النبوية الذهبية: ]...وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ...] رواه مسلم . ]وَاعْلَمْ
أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ
يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ
اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا
بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ
الصُّحُفُ] رواه الترمذي وأحمد .
نصيحة أخيرة: إننا
نحتاج إلى إخوة جادين في كل شئون حياتهم، تبدو عليهم تلك السمات في
أفعالهم، جادين في تفكيرهم، الهمّ الأول عندهم هو الدين، ثمَّ تأتي سائر
الهموم بعد ذلك، فلا شيء يقدم على دين الله .
فابدأ من الآن إجراء هذه العملية
الضرورية، عملية تطهير للأفكار، نريد جدية في الاهتمامات، إن بعضنا يكاد
يقتل نفسه من كثرة التفكير، يفكر في وضعه بين الناس، كيف يفكر الناس فيه؟!
ماذا يقول الناس عنه؟! ولعله لم يخطر للناس على بال، ولو شغل نفسه بحاله
مع الله لكفاه، حينئذٍ عليك أن تردد في نفسه: ماذا أنت فاعل بي يا غفار
الذنوب؟ وما اسمي عندك يا علام الغيوب؟
لا تهتم كثيرًا بالناس، فاصلح ما بينك وبين رب الناس؛ يكفك أمر الناس .
تجد بعضهم يقع في مشكلات نفسية وعندما
تفتش عن الأسباب تجدها أمور تافهة، وهذا حال أهل البطالة سافلو الهمة،
فإنَّ النفوس العلوية لا تنظر لمثل هذه السفاهات، وإلا أخلَّ ذلك بها،
لكنه فراغ القلب من الله .
أما أهل الهمة العالية، والجادون في
التزامهم فإنهم مشغولون بأمور أخرى، مشغول بحفظ القرآن، بالدعوة إلى الله،
بكيفية إصلاح فساد قلبه، مشتاق لسجدة يقبلها الله منه، مشتاق لتسبيحة يشعر
معها بحلاوة الإيمان، هذا شأن عباد الله الصالحين، فمن أي الفريقين أنت؟!
هذه ـ إذًا ـ قضيتك الأولى، هل أنت
ملتزم أم لا؟ هل اعتاد لسانك الذكر فصار رطبًا منه؟ هل اعتادت جوارحك
القيام بأداء حقوق الله فصرت تشعر بالوحشة إذا لم تؤدِ شيئًا يسيرًا منها؟
إنَّه إدمان الطاعة، حينها تجد الرجل يقول: الصلاة صارت تجري في دمي، لا
أستطيع أن أترك ورد القرآن، أشعر بأنِّي لا أتمالك نفسي، وهكذا ساعتها
تعيش الإسلام لأنه يعيش فيك، فتحفظ من التفلت والانتكاس .
أخيرًا:عليكم
بالاقتصاد في الهزل والمزاح: فلقد صار الهزل وكثرة الضحك شعار الشباب في
هذه الأيام، وليست المشكلة في الدعابة اليسيرة، والمزاح القليل الذي لا
يخرج عند حدود الأدب، وإنما في هذا الإفراط والمبالغة حتى أن بعض الشباب
يقلب أكثر المواقف جدية إلى هزل وفكاهة، والذي لا يصنع هكذا يتهم بأنه
مصاب بالجمود والانغلاق …الخ
آهٍ … للأسف الشديد ونحن في ذلة وصغار
واستضعاف صرنا نعبث ونلهو حتى كأن العصر هو عصر الهزل، والآن هناك أماكن
مخصصة للضحك، مسرحيات بالساعات للضحك واللهو والعبث، وكل ذلك بالكذب .
أين الجد في حياتنا يا شباب الإسلام؟ الذي يحلق ببصره ويطوف شرقًا وغربًا ليرى حال المسلمين لا يمكن أن يكون هذا حاله !
اسأل الله العلي الكبير أن تكون هذه الرسالة سبيلاً للمؤمنين للرجوع إلى
الجادة، ونفض هذا الغبار الذي لطخهم، لنتعاون سويًا لنصرة دين الله تعالى .
من رسالة:'الجدية في الالتزام' للشيخ/محمد حسين يعقوب